فصل: تفسير الآيات (31- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في كذب:
كَذَب يَكْذِبُ كَذِباً وكِذْبا وكِذَاباً وأَكذوبة وكاذِبة ومَكْذوباً ومَكذَبة وكُذْبانا كغفران وكُذْبَى كبُشْرى، فهو كاذِب وكَذَّاب وكَذُوب وكَيْذَبان وكَيْذُبَان ومَكْذُوبان، وكُذَبة كهُمَزة، وكُذُبْذُب وكُذُبْذُبان وكُذُّبْذُب بالتشديد، قال جُرَيبة بن الأَشْيم:
فإِذا سمعتَ بأَنَّنى قد بِعْتُه ** بوِصالِ غانِيَة فقل كُذُّبْذُب

وجمع الكاذب: كُذَّب، كراكع ورُكَّع.
وجمع الكَذُوب: كُذُب، كصَبُور وصُبُر.
وقرأ مُعَاذ بن جَبَل رضى الله عنه وسَلَمة بن محارب الزِّيادى وابن أَبى عَبْلة وأَبو البرهسم: {وَلاَ تَقولواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} فجعلوه نعتاً للأَلسنة.
ويقال: كذب كُذَّاباً بالضمّ والتشديد أَى متناهِياً.
وقرأ عمر بن عبد العزيز: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}، ويكون صفة على المبالغة كوُضَّاءٍ وحُسَّان.
ومن قرأ {كِذَّاباً} بالكسر فهو أَحد مصادر المشدَّد؛ لأَن مصدره قد يجيء على تفعيل مثل التكليم، وعلى فِعَّال مثل كِذَّاب، وعلى تفعِلة مثل تكملة، وعلى مُفَعَّل مثل قوله تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} وقرأ على رضى الله عنه والعُطَارِدِىّ والأَعمش والسُّلَمىّ والكسائىّ: {وَلاَ كِذَّاباً}، وقيل: هو مصدر كَاذَبْتُه مكاذبةً وكِذَاباً، وقيل: مصدر كَذَب كِذَاباً مثل كتب كِتَاباً.
وأَكذبته: وجدته كاذباً.
وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} كذَّبهم في اعتقادهم لا في مقالهم، فمقالهم كان صدقاً.
وقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} نسب الكذب إِلى نفس الفعل، كقولهم: فَعْلة صادقة، وفعلة كاذبة.
وكَذَب قد يتعدَّى إِلى مفعولين، تقول: كَذَبتك حديثاً: {الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
وكذَّبته: نسبته إِلى الكذب، صادقاً كان أَو كاذباً.
وما جاءَ في القرآن ففى تكذيب الصَّادق، نحو قوله: {رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ}، قرئ بالتخفيف والتشديد، ومعناه: لا يجدونك كاذباً، ولا يستطيعون أَن يثبتوا كذبك.
وقوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} أَى علموا أَنهم تُلُقُّوا من جهة الَّذين أُرسلوا إِليهم بالكذب.
فكُذِّبوا نحو فسّقوا وزُنٌّوا وخُطِّئوا إِذا نسبوا إِلى شيء من ذلك.
وقرئ: {كُذِبُوا} بالتخفيف من قولهم: كَذَبتك حديثا، أَى ظنَّ المرسَل إِليهم أَن الرّسل قد كَذَبوهم فيما أَخبروهم به: أَنهم إِن لم يؤمنوا بهم نزل بهم العذاب.
وإِنَّما ظنُّوا ذلك من إِمهال الله تعالى إِيَّاهم وإِملائه لهم.
وقوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً} الكِذَّاب: التكذيب، والمعنى: لا يَكذِبون فيكذِّبَ بعضهم بعضاً.
ونفى التكذيب عن الجنَّة يقتضى نفى الكذب عنها.
وقرئ {كِذَاباً} كما تقدَّم، أَى لا يتكاذبون تكاذب النَّاس في الدُّنيا.
قال بعض المفسِّرين: ورد الكذب في القرآن:
1- بمعنى النِّفاق: {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، أَى ينافقون، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}: منافقون.
2- وبمعنى الإِشراك بالله ونسبة الولد: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ على اللَّهِ}، {وَيوم الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ على اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ}.
3- وبمعنى قذف المحصَنات: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
4- وبمعنى الإِنكار: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}.
أَى ما أَنكر.
5- وبمعنى خُلْف الوعد: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}، أَى رَدّ وخُلف.
6- وبمعنى الكذب اللغوى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}، {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا}، {فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}، {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ}، {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ}.
والله أَعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً}
تقدم وجه الجمع بينه هو والآيات المشابهة له كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} مع الآيات المقتضية لدوام عذاب أهل النار بلا انقطاع كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا} في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قال النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّه} الآية فقد بينا هناك أن العذاب لا ينقطع عنهم وبينا وجه الاستثناء بالمشيئة وأما وجه الجمع بين الأحقاب المذكورة هنا مع الدوام الأبدي الذي قدمنا الآيات الدالة عليه فمن ثلاثة أوجه:
الأول: وهو الذي مال إليه ابن جرير وهو الأظهر عندي لدلالة ظاهر القرآن عليه هو أن قوله: {لابثين فيها أحقابا} متعلق بما بعده أي لابثين فيها أحقابا في حال كونهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا فإذا انقضت تلك الأحقاب عذبوا بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق ويدل لهذا تصريحه تعالى بأنهم يعذبون بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق في قوله: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}.
وغاية ما يلزم على هذا القول تداخل الحال وهو جائز حتى عند من منع ترادف الحال كابن عصفور ومن وافقه.
وإيضاحه أن جملة: {لا يذوقون}: حال من ضمير اسم الفاعل المستكن ونعني باسم الفاعل قوله لابثين الذي هو حال ونظيره من اتيان جملة فعل مضارع منفي بلا حالا في القرآن قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} أي في حال كونكم لا تعلمون.
الثاني: أن هذه الأحقاب لا تنقضي أبدا رواه ابن جرير عن قتادة والربيع بن أنس وقال إنه أصح من جعل الآية في عصاة المسلمين كما ذهب إليه خالد بن معدان.
الثالث: أنا لو سلمنا دلالة قوله: {أحقابا} على التناهي والانقضاء فإن ذلك إنما فهم من مفهوم الظرف والتأبيد مصرح به منطوقا والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول.
وقال خالد بن معدان إن هذه الآية في عصاة المسلمين يرده ظاهر القرآن لأن الله قال: {وكذبوا بآياتنا كذابا}: وهؤلاء الكفار. اهـ.

.تفسير الآيات (31- 37):

قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر جزاء الكافرين وأشعر آخره بكونه إخزاء، ذكر جزاء المؤمنين المخالفين لهم فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب الكافرين به: {إن للمتقين} أي الراسخين في الخوف المقتضي لاتخاذ الوقاية مما يخاف فوقوا أنفسهم من سخط الله بما يرضيه من الأعمال والأقوال والأحوال {مفازاً} أي فوزاً وموضع فوز وزمان فوز بالراحة الدائمة من جميع ما مضى ذكره للطاغين الذين هم أضدادهم، وقد كشفوا أنفسهم للعذاب كل الكشف، ثم فسره أو أبدل منه على حذف مضاف أي فوز: {حدائق} أي بساتين فيها أنواع الأشجار ذوات الثمار والرياحين لتجمع مع لذة المطعم لذة البصر والشم، قد أحدقت بها الجدران وحوطت بها، قال ابن جرير: فإن لم تكن بحيطان محدقة بها لم يقل لها حديقة.
وخص أشجار العنب لطيبها وحسنها وشرفها وما فيها من لذة الذوق وعبر عن أشجارها بثمرتها إعلاماً بأنها لا توجد إلا موقرة حملاً وأن ثمرتها هي جل منفعتها فقال: {وأعناباً}.
ولما ذكر المساكن النزهة المؤنقة المعجبة، ذكر ما يتمتع به وهو جامع لألذاذ الحواس: البصر واللمس والذوق فقال: {وكواعب} أي نساء كعبت ثديهن {أتراباً} أي على سن واحد من مس جلد واحد التراب قبل الأخرى، بل لو كن مولودات لكانت ولادتهن في آن واحد.
ولما ذكر النساء ذكر الملائم لعشرتهن فقال: {وكأسا} أي من الخبر التي لا مثل لها في لذة الذوق ظاهراً وباطناً وكمال السرور وإنعاش القوى.
ولما كانت العادة جارية بأن الشراب الجيد يكون قليلاً، دل على كثرته دليلاً على جودته بقوله: {دهاقاً} أي ممتلئة.
ولما كانت مجالس الخمر في الدنيا ممتلئة بما ينغصها من اللغو والكذب إلا عند من لا مروءة له فلا ينغصه القبيح، قال نافياً عنها ما يكدر لذة السمع: {لا يسمعون فيها} أي الجنة في وقت ما {لغواً} أي لغطاً يستحق أن يلغى لأنه ليس له معنىً أعم من أن يكون مهملاً ليس له معنى أصلاً، أو مستعملاً ليس له معنىً موجود في الخارج وإن قل، أو له معنى ولكنه لا يترتب به كبير فائدة.
ولما انتفى الكذب بهذه الطريقة، وكان التكذيب أذى للمكذب، نفاه بقوله: {ولا كذباً} فإن هذه الصيغة تقال على التكذيب ومطلق الكذب، فصار المعنى: ولا أذىً بمعارضة في القول، مع موافقة قراءة الكسائي بالتخفيف فإن معناها كذباً أو مكاذبة، وشدد في قراءة الجماعة لرشاقة اللفظ وموازنة {أعنابا} و{أتراباً} مع الإصابة لحلق المعنى من غير أدنى جور عن القصد ولا تكلف بوجه ما.
ولما كان العطاء إذا كان على المعاوضة كان أطيب لنفس الآخذ قال: {جزاء} وبين أنه ما جعله جزاء لهم إلا إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء لأن أحدًّا لا يمكنه أن يوفي شكر نعمة من نعمه فإن عمله من نعمه فقال: {من ربك} أي المحسن إليك بإكرام أمتك بانواع الإكرام، وفي {عطاء} إشارة إلى ذلك وهو بذل من غير جزاء {حساباً} أي على قدر الكفاية وإن فعل الإنسان منهم ما فعل وحسب جميع أنواع الحساب، ومن قولهم: أعطاه فأحسبه- إذا تابع عليه العطاء وأكثره حتى جاوز العد وقال: حسبي، لا يمكن أن يحتاج مع هذا العطاء وإن زاد في الإنفاق، واختير التعبير به دون (كافياً) مثلاً لأنه أوقع في النفس، فإنه يقال: إذا كان هذا الحساب فما الظن بالثواب.
ولما ذكر سبحانه سعة فضله، وصف نفسه الأقدس بما يدل على عظمته زيادة في شرف المخاطب صلى الله عليه وسلم لأن عظمة العبد على حسب عظمة السيد، فقال مبدلاً على قراءة الجماعة وقاطعاً بالرفع على المدح عند الحجازيين وأبي عمرو: {رب السماوات والأرض} أي مبدعهما ومدبرهما ومالكهما {وما بينهما} ملكاً وملكاً.
ولما شمل ذلك العرش وما دونه، علله بقوله: {الرحمن} أي الذي له الإنعام العام الذي أدناه الإيجاد، وليس ذلك لأحد غيره، فإن الكل داخل في ملكه وملكه، ولذلك قال دالاً على الجبروت بعد صفة الرحمة: {لا يملكون} أي أهل السماوات والأرض ومن بين ذلك أصلاً دائماً في وقت من الأوقات في الدنيا ولا في الآخرة لا في يوم بعينه: {منه} أي العام النعمة خاصة {خطاباً} أي أن يخاطبوه أو يخاطبوا غيره بكلمة فما فوقها في أمرهم في غاية الاهتمام به بما أفاده التعبير بالخطاب، فكيف بما دونه وإذا لم يملكوا ذلك منه فمن والكمل في ملكه وملكه؟ وعدم ملكهم لأن يخاطبهم مفهوم موافقة، والحاصل أنهم لا يقدرون على خطاب ما من ذوات أنفسهم كما هو شأن المالك.
وأما غيره فقد يملكون أن يكرهوه على خطابهم وأن يخاطبوه بغير إذن من ذلك الغير ولا رضى وبغير تملك منه لهم لأنه لا ملك له، وإذا كان هذا في الخطاب فما ظنك بمن يدعي الوصال بالاتحاد- عليهم اللعنة ولهم سوء المآب، ما أجرأهم على الاتحاد! وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: كيف يكون للمكون المخلوق والفقير المسكين مكنة تملك منه خطاباً أو تتنفس نفساً كلا بل هو الله الواحد الجبار. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد الأخيار وهو أمور:
أولها: قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)}
أما المتقي فقد تقدم تفسيره في مواضع كثيرة {ومفازاً} يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى فوزاً وظفراً بالبغية، ويحتمل أن يكون موضع فوز والفوز يحتمل أن يكون المراد منه فوزاً بالمطلوب، وأن يكون المراد منه فوزاً بالنجاة من العذاب، وأن يكون المراد مجموع الأمرين، وعندي أن تفسيره بالفوز بالمطلوب أولى من تفسيره بالفوز بالنجاة من العذاب، ومن تفسيره بالفوز بمجموع الأمرين أعني النجاة من الهلاك والوصول إلى المطلوب، وذلك لأنه تعالى فسر المفاز بما بعده وهو قوله: {حَدَائِقَ وأعنابا} [النبأ: 32] فوجب أن يكون المراد من المفاز هذا القدر.
فإن قيل الخلاص من الهلاك أهم من حصول اللذة، فلم أهمل الأهم وذكر غير الأهم؟ قلنا: لأن الخلاص من الهلاك لا يستلزم الفوز باللذة والخير، أما الفوز باللذة والخير فيستلزم الخلاص من الهلاك، فكان ذكر هذا أولى.
وثانيها: قوله تعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)}
والحدائق جمع حديقة، وهي بستان محوط عليه.
من قولهم: أحدقوا به أي أحاطوا به، والتنكير في قوله: {وأعنابا} يدل على تعظيم حال تلك الأعناب.
وثالثها: قوله تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)}
كواعب جمع كاعب وهي النواهد التي تكعبت ثديهن وتفلكت أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة.
ورابعها: قوله تعالى: {وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)}
وفي الدهاق أقوال الأول: وهو قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد، و{دِهَاقاً} أي ممتلئة، دعا ابن عباس غلاماً له فقال: اسقنا دهاقاً، فجاء الغلام بها ملأى، فقال ابن عباس: هذا هو الدهاق قال عكرمة، ربما سمعت ابن عباس يقول: اسقنا وادهق لنا القول الثاني: دهاقاً أي متتابعة وهو قول أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد، قال الواحدي: وأصل هذا القول من قول العرب: أدهقت الحجارة إدهاقاً وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض، ذكرها الليث والمتتابع كالمتداخل القول الثالث: يروى عن عكرمة أنه قال: {دِهَاقاً} أي صافية، والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع داهق، وهو خشبتان يعصر بهما، والمراد بالكأس الخمر، قال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو خمر، التقدير. وخمراً ذات دهاق، أي عصرت وصفيت بالدهاق.
وخامسها: قوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)}
في الآية سؤالان:
الأول: الضمير في قوله: {فِيهَا} إلى ماذا يعود؟ الجواب فيه قولان الأول: أنها ترجع إلى الكأس، أي لا يجري بينهم لغو في الكأس التي يشربونها، وذلك لأن أهل الشراب في الدنيا يتكلمون بالباطل، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم، ولم يتكلموا بلغو والثاني: أن الكناية ترجع إلى الجنة، أي لا يسمعون في الجنة شيئاً يكرهونه.
السؤال الثاني:
الكذاب بالتشديد يفيد المبالغة، فوروده في قوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً} [النبأ: 28] مناسب لأنه يفيد المبالغة في وصفهم بالكذب، أما وروده هاهنا فغير لائق، لأن قوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً} يفيد أنهم لا يسمعون الكذب العظيم وهذا لا ينفي أنهم يسمعون الكذب القليل، وليس مقصود الآية ذلك بل المقصود المبالغة في أنهم لا يسمعون الكذب ألبتة، والحاصل أن هذا اللفظ يفيد نفي المبالغة واللائق بالآية المبالغة في النفي والجواب: أن الكسائي قرأ الأول بالتشديد والثاني بالتخفيف، ولعل غرضه ما قررناه في هذا السؤال، لأن قراءة التخفيف هاهنا تفيد أنهم لا يسمعون الكذب أصلاً، لأن الكذاب بالتخفيف والكذب واحد لأن أبا على الفارسي قال: كذاب مصدر كذب ككتاب مصدر كتب فإذا كان كذلك كانت القراءة بالتخفيف تفيد المبالغة في النفي، وقراءة التشديد في الأول تفيد المبالغة في الثبوت فيحصل المقصود من هذه القراءة في الموضعين على أكمل الوجوه، فإن أخذنا بقراءة الكسائي فقد زال السؤال، وإن أخذنا بقراءة التشديد في الموضعين وهي قراءة الباقين، فالعذر عنه أن قوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً} إشارة إلى ما تقدم من قوله: {وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً} والمعنى أن هؤلاء السعداء لا يسمعون كلامهم المشوش الباطل الفاسد، والحاصل أن النعم الواصلة إليهم تكون خالية عن زحمة أعدائهم وعن سماع كلامهم الفاسد وأقوالهم الكاذبة الباطلة.
ثم إنه تعالى لما عدد أقسام نعيم أهل الجنة قال: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الزجاج: المعنى جازاهم بذلك جزاء، وكذلك عطاء لأن معنى جازاهم وأعطاهم واحد.
المسألة الثانية:
في الآية سؤال وهو أنه تعالى جعل الشيء الواحد جزاء وعطاء، وذلك محال لأن كونه جزاء يستدعي ثبوت الاستحقاق، وكونه عطاء يستدعي عدم الاستحقاق والجمع بينهما متناف والجواب عنه: لا يصح إلا على قولنا: وهو أن ذلك الاستحقاق إنما ثبت بحكم الوعد، لا من حيث إن الفعل يوجب الثواب على الله، فذلك نظراً إلى الوعد المترتب على ذلك الفعل يكون جزاء، ونظراً إلى أنه لا يجب على الله لأحد شيء يكون عطاء.
المسألة الثالثة:
قوله: {حِسَاباً} فيه وجوه الأول: أن يكون بمعنى كافياً مأخوذ من قولهم: أعطاني ما أحسبني أي ما كفاني، ومنه قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي، أي كفاني من سؤالي، ومنه قوله:
فلما حللت به ضمني ** فأولى جميلاً وأعطى حسابا

أي أعطى ما كفى والوجه الثاني: أن قوله: حساباً مأخوذ من حسبت الشيء إذا أعددته وقدرته فقوله: {عَطَاءً حِسَاباً} أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الإضعاف، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه، وجه منها على عشرة أضعاف، ووجه على سبعمائة ضعف، ووجه على ما لا نهاية له، كما قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، الوجه الثالث: وهو قول ابن قتيبة: {عَطَاء حِسَاباً} أي كثيراً وأحسبت فلاناً أي أكثرت له، قال الشاعر:
ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ** ونحسبه إن كان ليس بجائع

الوجه الرابع: أنه سبحانه يوصل الثواب الذي هو الجزاء إليهم ويوصل التفضل الذي يكون زائداً على الجزء إليهم، ثم قال: {حِسَاباً} ثم يتميز الجزاء عن العطاء حال الحساب الوجه الخامس: أنه تعالى لما ذكر في وعيد أهل النار: {جَزَاءً وفاقا} ذكر في وعد أهل الجنة جزاء عطاء حساباً أي راعيت في ثواب أعمالكم الحساب، لئلا يقع في ثواب أعمالكم بخس ونقصان وتقصير، والله أعلم بمراده.
المسألة الرابعة:
قرأ ابن قطيب: {حِسَاباً} بالتشديد على أن الحساب بمعنى المحسب كالدراك بمعنى المدرك، هكذا ذكره صاحب (الكشاف).
واعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف وعيد الكفار ووعد المتقين، ختم الكلام في ذلك بقوله: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
{رب السموات} و{الرحمن}، فيه ثلاثة أوجه من القراءة الرفع فيهما وهو قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو، والجر فيهما وهو قراءة عاصم وعبد الله بن عامر، والجر في الأول مع الرفع في الثاني، وهو قراءة حمزة والكسائي، وفي الرفع وجوه أحدها: أن يكون {رب السموات} مبتدأ، و{الرحمن} خبره، ثم استؤنف {لا يملكون منه خطاباً} وثانيها: {رب السموات} مبتدأ، و{الرحمن} صفة و{لا يملكون} خبره وثالثها: أن يضمر المبتدأ والتقدير هو: {رَبّ السموات} هو {الرحمن} ثم استؤنف: {لاَّ يَمْلِكُونَ} ورابعها: أن يكون {الرحمن} و{لاَّ يَمْلِكُونَ} خبرين وأما وجه الجر فعلى البدل من {ربك}، وأما وجه جر الأول، ورفع الثاني فجر الأول بالبدل من {ربك}، والثاني مرفوع بكونه مبتدأ وخبره {لا يملكون}.
المسألة الثانية:
الضمير في قوله: {ويملكون} إلى من يرجع؟ فيه ثلاثة أقوال: الأول: نقل عطاء عن ابن عباس إنه راجع إلى المشركين يريد لا يخاطب المشركون أما المؤمنون فيشفعون يقبل الله ذلك منهم.
والثاني: قال القاضي: إنه راجع إلى المؤمنين، والمعنى أن المؤمنين لا يملكون أن يخاطبوا الله في أمر من الأمور، لأنه لما ثبت أنه عدل لا يجور، ثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفار عدل، وأن الثواب الذي أوصله المؤمنين عدل، وأنه ما يخسر حقهم، فبأي سبب يخاطبونه، وهذا القول أقرب من الأول لأن الذي جرى قبل هذه الآية ذكر المؤمنين لا ذكر الكفار.
والثالث: أنه ضمير لأهل السموات والأرض، وهذا هو الصواب، فإن أحدًّا من المخلوقين لا يملك مخاطبة الله ومكالمته.
وأما الشفاعات الواقعة بإذنه فغير واردة على هذا الكلام لأنه نفى الملك والذي يحصل بفضله وإحسانه، فهو غير مملوك، فثبت أن هذا السؤال غير لازم، والذي يدل من جهة العقل على أن أحدًّا من المخلوقين لا يملك خطاب الله وجوه الأول: وهو أن كل ما سواء فهو مملوكه والمملوك لا يستحق على مالكه شيئاً وثانيها: أن معنى الاستحقاق عليه، هو أنه لو لم يفعل لاستحق الذم.
ولو فعله لاستحق المدح، وكل من كان كذلك كان ناقصاً في ذاته، مستكملاً بغيره وتعالى الله عنه وثالثها: أنه عالم بقبح القبيح، عالم بكونه غنياً عنه، وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح، وكل من امتنع كونه فاعلاً للقبيح، فليس لأحد أن يطالبه بشيء، وأن يقول له لم فعلت.
والوجهان الأولان مفرعان على قول أهل السنة، والوجه الثالث يتفرع على قول المعتزلة فثبت أن أحدًّا من المخلوقات لا يملك أن يخاطب ربه ويطالب إلهه. اهـ.